حرية التعبير أم فوضى رقمية؟

في الآونة الأخيرة، تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحة واسعة للتعبير عن الرأي، لكنها أصبحت أيضا مرتعا لتبادل العنف اللفظي والإساءات التي طالت الجميع، وأمام هذا الواقع، يقف المتابعون حائرين أمام خط فاصل بين حرية التعبير وتجاوزات تقترب من الفوضى.

ويواجه اليوم عدد من المؤثرين حملة انتقادات وملاحقات قانونية، بعد أن تجاوزت تعبيراتهم حدود الأدب العام، بل وتعدت إلى الإساءة المباشرة، وهذه الظاهرة تدفع إلى التساؤل حول حقيقة حرية التعبير وحدودها، ومدى مسؤولية الأفراد المؤثرين تجاه المجتمع، وأهمية المحاسبة كعنصر رئيسي لضبط سلوكهم.

تتردد بعض الأصوات معتبرة أن العنف اللفظي شائع، وتقول بأن “الجميع يسب”، وبناء عليه، نساءل عن جدوى تطبيق القانون على من يتجاوز الحدود اللفظية، لكن، هل هذا المبرر كاف للتخلي عن الحق في مساءلة المسيئين؟ في الواقع، الحجة بأن الإساءات المتبادلة قد باتت سلوكا يوميا لا تعني إطلاقا إعفاء المتجاوزين من تبعات أفعالهم، فوجود الظاهرة لا يلغي حق من تعرض للإهانة في المطالبة بالعدالة، بل ويعزز أهمية تطبيق القانون، لأن عدم المساءلة يشجع المزيد من الأفراد على ارتكاب تجاوزات أكبر، بحجة أن أحدا لن يحاسبهم، ولعلها رسالة خاطئة حين تطلق يد المؤثرين باسم الحرية ليتجاوزوا حدودها، مما يثير التساؤلات حول فهمنا لحرية التعبير ومدى احترامها للآخرين.

وتكمن مشكلة أخرى في تساهل البعض تجاه مكرري الأخطاء، إذ يرى البعض أن “الجميع يخطئ” و”نحن لسنا ملائكة”، معتبرين ذلك مبررًا كافيًا لمنح المغفرة المتواصلة، لكن، حين نرى نفس الأفراد يتورطون مرارًا في التجاوزات، نفهم أن المسألة ليست زلة عابرة، وإنما سلوك متكرر يكشف عن نية تتحدى القانون والمجتمع، ففي كلّ مرة، يبرر هؤلاء تجاوزاتهم بحجة أنهم بشر وأن الخطأ وارد، متجاهلين فكرة أن تكرار الخطأ ينم عن عدم الاحترام، ليس فقط لقانون البلاد بل وللمتابعين الذين يعتقدون أن هذا السلوك غير محبب، فالتجاوز الأول قد يكون عابرًا، لكن الإصرار على الاستمرار به يقود إلى خلل اجتماعي خطير، ويؤسس لثقافة تستبيح حقوق الآخرين باسم “البشرية” و”الخطأ الممكن”.

وربما يجد البعض أن تقديم الأعمال الخيرية هو وسيلة للتكفير عن الأخطاء، فيحاولون إظهار صورة طيبة عبر التبرع والمشاركة في مبادرات اجتماعية، غير أن الخير الحقيقي لا يعطي حصانة ولا يُستَغل كذريعة لتجاوز القيم، فمن يتصدق أو يتبرع لأجل هدف نبيل، إنما يفعل ذلك بينه وبين خالقه، وليس لأجل بناء درع واق يحميه من انتقادات المجتمع، فحين يصبح فعل الخير وسيلة لتحصين الذات من المساءلة، فإن الرسالة الخاطئة التي تصل إلى الناس هي أن الأعمال الصالحة قد تعفي من مسؤولية السلوك المحترم في باقي جوانب الحياة، مع أن الخير الحقيقي هو الذي لا يتطلب إشادة أو تطبيلا، ولا يسعى لابتزاز المجتمع بأفعال منفصلة عن أخلاق التعامل اليومي.

بعض المدافعين عن هؤلاء المؤثرين يرون أن الملاحقات القانونية تتجاوز الحدود، ويرون أن من حقهم الدفاع عن الحرية المطلقة، ويذهب بعضهم إلى اقتراح حلول جذابة، من مثل “إخلاء البلاد” أو الدعوة إلى الفوضى احتجاجا على محاسبة أحدهم، لكن، هل الانفلات والفوضى هما الحل في كل مرة نواجه فيها مشكلة مع أحد المشاهير؟ هل نطلب السماح بتجاوز القوانين كي لا يضطر الناس إلى مغادرة البلاد؟ المنطق هنا مختل، ويعكس نظرة غير واقعية ولا تعي أهمية القانون الذي يحافظ على استقرار المجتمعات، ويكبح النزعات الفوضوية، فالحرية ليست مسوغا للتجاوز، بل تحدّها أخلاق وقيم تحافظ على اتزان المجتمع، والقانون نفسه ليس استبدادا بل إطارا يضمن الاستقرار ويحمينا جميعا من العبث.

النجاح، كما يراه البعض اليوم، يتخذ أبعادا ضبابية خاصة في منصات التواصل الاجتماعي، حيث يعتقد بعض المؤثرين أن جذب الأضواء بالسب والتشهير بالناس هو مقياس الشهرة، لكنهم نسوا أن المسابقات التي يتم تنظيمها لتعزيز نجاح المؤثرين قد تكون مدفوعة بأهداف ربحية بحتة، مبنية على كثافة المتابعين لا على جودة المحتوى، وربما قد تمنح الألقاب العالمية لمجرد أن هذا المؤثر يستقطب قاعدة جماهيرية كبيرة، دون النظر إلى أثر هذا المحتوى على المجتمع، ومثل هذه النجاحات تدعو إلى إعادة النظر في المفاهيم الأساسية للنجاح، إذ يجب أن يكون النجاح مرادفا لقيمة حقيقية تخدم الناس وتبني جسرا للتواصل الإيجابي، لا أداة للتفرقة والتشويه.

الخطاب الشعبي بدوره لم يسلم من التوظيف الاستعراضي، حيث يرفع بعض المؤثرين شعار “نحن المغاربة لا نركع ولا نرحم”، لكن من أعطاهم الحق للتحدث باسم الجميع؟ هل منحهم متابعوهم حصانة للحديث بالنيابة عن المغاربة؟ إنّ الحنان والرحمة لا تعني التنازل عن الحق أو السكوت عن الإساءات، بل تعني منح فرصة للإصلاح ضمن أطر الاحترام والقانون، ومغالطة أن نقف مكتوفي الأيدي أمام كل من يعتقد أنه فوق المساءلة هي أساس لتقويض قيم العدالة والاحترام المتبادل، وقد نتفق على أن التسامح فضيلة، لكن من دون مبادئ واضحة ستفقد هذه الفضيلة معناها الحقيقي.

قد يكون هذا الوضع بمثابة فرصة للمؤثرين لمراجعة مسارهم الشخصي، وفرصة للتعلم من الأخطاء والتحسين، ففي النهاية، المجتمع لا يكسب شيئًا من تبرير الأخطاء، بل يستفيد أكثر من ممارسات تحترم المبادئ الأخلاقية وتراعي أثر الأفعال على الأفراد والجماعات، ويمكن لهذه التجارب أن تفتح أبوابا لنقاشات جادة حول دور المؤثرين في تشكيل الوعي العام، وتبني فكر إيجابي قادر على مواجهة التحديات، لا الهروب منها.

في هذا الصدد، يتحتم على المؤثرين أن يدركوا أن الكلمة مسؤولية، وأن المكانة تأتي بمطالبات لا تقل أهمية عن شعبيتها، حيث إن السعي لترك أثر إيجابي دائم هو قمة النجاح الحقيقية، لا الهالة التي تبنى على أضرار الآخرين أو استغلال المواقف لتبرير التجاوزات، وختاما، إن الحاجة إلى مراجعة حقيقية للذات لم تكن يوما مطلبا شخصيا بقدر ما هي حاجة اجتماعية، فالمساءلة ليست مجرد عقوبة، بل هي وسيلة للإصلاح وبناء مجتمع واع، متحضر، وقادر على احترام تعددية الآراء دون أن ينحرف إلى الفوضى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.