يحتل الطلبة المغاربة مراتب متقدمة في أشهر المسابقات في الرياضيات سواء على الصعيد القاري أو الدولي، وهو ما تأكد مرة أخرى في الأولمبياد الإفريقية في الرياضيات 2023، حيث توجت التلميذة هبة الفرشيوي بلقب ”ملكة الرياضيات الإفريقية” وجاءت التلميذة زينب الشرقي وصيفة لها.
ويفتح هذا التفوق الباب للتساؤل عن وضعية هذا التخصص العلمي في المغرب، وخصوصا في الجامعة المغربية، وإمكانيات استثمار الكفاءات المغربية في هذا المجال، خصوصا في ظل الانتشار المتزايد منذ عقود لاستخدامات الرياضيات التطبيقية بالخصوص في مجالات التكنولوجيات الحديثة ومنها الذكاء الاصطناعي.
وفي هذا الصدد، سجل رئيس جمعية الرياضيات والمغرب (Math & Maroc)، الأستاذ الوافي الصقلي، أن التكوين والبحث العلمي في مجال الرياضيات شهدا تطورا بالمغرب، فبعدما كانت الأعمال في هذا المجال قبل عقود قليلة نظرية ، تغير الوضع في الجامعة المغربية اليوم وأصبح بإمكان الطالب الاختيار بين الرياضيات النظرية والرياضيات التطبيقية التي شرع المغرب مؤخرا في الاستثمار في تطبيقاتها في العديد من المجالات.
وأضاف السيد الصقلي، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن الجامعات المغربية شرعت في عقد شراكات مع نظيراتها الأجنبية بغرض تطوير مجال الرياضيات التطبيقية، مشيرا ، في هذا السياق، إلى أن “الذي يثلج الصدر حقيقة هو عندما أصبحت الجسور تمتد بين شركات مغربية والقطاع الجامعي في إطار شراكات، على غرار ما قام به المكتب الشريف للفوسفاط الذي كان وراء مبادرة إنشاء جامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية بمدينة ابن جرير، وهي مبادرة تجسد بوادر التحول الإيجابي في اتجاه نسج شراكات ما بين المجال الاقتصادي (الشركات ومجال الأعمال ..) من جهة، والرياضيات وتطبيقاتها من جهة ثانية”.
هذا التحول، يقول خبير الرياضيات، من شأنه تطوير الأبحاث في الرياضيات وإخراج هذه المادة من خانة التنظير البحت إلى واقع التطبيق والاستثمار الحقيقي المنتج في المجالات الحيوية المختلفة، عبر إحداث تجمعات في مناطق مجالية تضم جامعات ومقرات شركات ومراكز للدراسات والأبحاث العلمية، بما يحقق نوعا من التلاحم والتبادل على غرار التوجه المعمول به في أوربا و أمريكا، كمشروع “وادي السيليكون” بالمنطقة الجنوبية من منطقة خليج سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، أو قطب صوفيا أنتيبوليس بفرنسا .
ويرى رئيس جمعية الرياضيات والمغرب (Math & Maroc) أن تفوق المغاربة في الرياضيات ربما يعزى إلى موهبة فطرية خاصة، مذكرا في الوقت نفسه بتاريخ المغرب العريق مع هذه المادة، والذي يعود ، وفق تعبيره، لقرون عديدة حين كانت الحضارة الإسلامية تشكل مركز الإبداع العلمي والمعرفي “فقد كانت جامعة القرويين إحدى أهم مناهل العلوم (ومنها الرياضيات)، لأمهر طلبة العلم وأكثرهم طموحا في العالم بأسره”.
ولم يفت الأستاذ الصقلي الإشارة إلى أنه بالإضافة إلى المهارة الخاصة التي يمتلكها التلاميذ والأساتذة المغاربة على حد سواء في هذا المجال، “لا يمكن إنكار جودة المقررات التعليمية في هذه المادة، التي تم استلهامها في العقود الأخيرة من المقررات الغربية، خاصة الفرنسية منها، واليوم أصبح طلبتنا قادرين على جلب الميدالية الذهبية للمسابقة الدولية للرياضيات للمستوى الجامعي، وطموحنا تحقيق نفس الإنجاز بالنسبة للمستوى الثانوي التأهيلي”.
وأبرز أن تحديات الحصول على المراكز الأولى في الأولمبياد الدولية للرياضيات للمستوى الثانوي كبيرة بالنظر إلى قوة المنافسة ومستوى التقدم الذي تحرزه الدول الكبرى المنافسة في برامجها التحضيرية لفائدة تلامذتها؛ إذ تبدأ في تحضيرهم في فترات مبكرة جدا من المراحل الدراسية ( المستوى الابتدائي أو الإعدادي)، كما هو الشأن في اليابان والصين؛ مما يساعد هؤلاء التلاميذ على تجويد مهاراتهم الرياضية وتحقيق تراكم في مكتسباتهم التنافسية.
أما الفترة التحضيرية بالنسبة للتلاميذ المغاربة فتبدأ ، يضيف السيد الصقلي ، في المستوى الدراسي الثانوي التأهيلي، وقبل ذلك كان التحضير لا يبدأ إلا في السنة الختامية أي السنة الثانية باكلوريا.
وهكذا، سجل غياب تكافؤ الفرص بين المنتخبات العالمية على مستوى شروط التحضير والتأهيل لخوض هذه المسابقات الدولية، مما يجعل حجم التحدي أكبر أمام التلاميذ المغاربة، مشيرا إلى “معطى آخر لا يقل أهمية”، ويتمثل في أن بعض الدول سيما المتقدمة منها، تعمل عند اقتراب موعد المنافسة الدولية بفترة قد تصل إلى شهور، على ضمان تفرغ مرشحيها من التلاميذ للتدريب المكثف في الرياضيات وعدم الانشغال بأي مادة من المواد الدراسية الأخرى أو الامتحانات الأخرى.
أما التلاميذ المغاربة، يضيف المتحدث، فهم ملزمون بمتابعة دروسهم في أقسامهم الدراسية، واجتياز الامتحانات المبرمجة جهويا أو وطنيا، مما يجعل تركيزهم ووقتهم يتوزع في الواقع بين المتطلبات الدراسية والتزامات التحضير للأولمبياد الدولية.
ولتقليص حجم الهوة على هذا المستوى، وزيادة حظوظ فوز الفرق الوطنية في الأولمبياد الدولية، تعمل جمعية ” Math & Maroc ” إلى جانب الوزارة الوصية وبالتعاون مع باقي شركائها، على التقدم تدريجيا على مستوى الإعداد المبكر شيئا فشيئا لمواكبة شروط التحضير المعمول بها في العديد من الدول المنافسة. ويتم العمل بالخصوص على الرفع من عدد المؤطرين المشرفين على التدريب، والتعجيل بعملية التحضير، لـ “تبدأ حاليا من مستوى الجذع المشترك وليس من الباكالوريا كما كان في السابق”.
وتعمل وزارة التربية الوطنية منذ سنوات بشراكة مع جمعية الرياضيات والمغرب ” Math & Maroc “، التي تأسست عام 2016 على يد ثلة من الطلبة المغاربة خريجي أرقى الجامعات العالمية الذين سبق لهم المشاركة في مسابقات وطنية ودولية خاصة بالرياضيات، على نشر ثقافة التباري في هذا المجال بين عموم المغاربة وانتقاء التلاميذ المتفوقين وتشجيعهم وإعدادهم لتمثيل المغرب في الأولمبياد الدولية للرياضيات.