اعداد رشيد العمري-ومع
لم يكن يزيد غيور، البالغ من العمر 28 سنة، يدرك أنه سيتخطى يوما ما فكرة الانقطاع عن الدراسة التي كانت تلازمه في صباه، وأنه سيرتقي بمستواه التعليمي لتجاوز شهادة الماستر في شعبة المالية، والتحضير للدكتوراه في الوقت الذي اقتحم فيه سوق الشغل عن جدارة واستحقاق.
هذا الإحساس في سن مبكر كان وليد طاقة خفية حدت من قدراته الشخصية ورغباته في التحصيل، حيث كان يستعصى عليه حتى الاستقرار بين أقرانه في رحاب المدرسة جراء الصداع النصفي “الشقيقة” المتكرر الذي كان يصيبه.
كما كان يعاني من عيب في النطق إلى جانب عدم التركيز والغموض والتعثر الذي يطارد ذاكرته المتصلبة خاصة في أوقات الامتحانات، مما يؤدي به إلى نسيان كل ما تم تحضيره، وبالتالي تكون النتيجة غير مرضية بحصوله على نقط متدنية جدا.
في حوار مع وكالة المغرب العربي للأنباء، قال يزيد إنه “مع اكتشاف هذا المرض بمحض الصدفة في سن يناهز 11 سنة، شرعت في حصص العلاج والترويض الطبي المتواصل على مستوى النظر بتقنية مبتكرة وذلك لمدة تراوحت ما بين 3 و 4 سنوات، مع تتبع جلسات تتعلق بالحد من العسر في القراءة لمدة نحو 6 سنوات مستعينا بنظارات طبية خاصة، مما ساعدني على استعادة الثقة في نفسي والتمكن من القراءة بشكل عادي كباقي الزملاء من الطلبة”.
ويؤكد يزيد، الذي خبر المعاناة التي ترافق الإصابة بهذا المرض، على ضرورة لفت انتباه الأمهات والآباء وأطر التربية والتكوين إلى وجود هذا المرض الذي يحول بين الطفل والتعليم، مبرزا أن هناك من الأطفال ممن يتعذر عليهم اقتحام فضاء العلم والمعرفة ليس لكونهم لا يرغبون في القراءة والكتابة بل لعدم قدرتهم، وخاصة في صفوف البراعم الذين قد يفتقدون التحكم في تصرفاتهم وتتعالى أصوات صراخهم الهستيري تعبيرا منهم عن نوع من الضجر والسخط وعدم الرضى عما هم فيه.
وعلى ضوء النتائج الإيجابية التي تحققت في المسار الدراسي للشاب يزيد، فالأم لا تخفي شعورها بسعادتها الكبرى، قائلة إنها لم تدرك الحالة المرضية لوحيدها يزيد قبل بلوغه مستوى الشهادة الابتدائية، حيث بدأت تظهر عليه سلسلة من التصرفات والحركات غير العادية التي حركت حفيظة أساتذته من عدم التركيز والتوقف عن الكتابة قبل الأوان والتفكير دائما في الخروج من الفصل، إذ حتى النظارات الطبية العادية لم تفلح حينها في احتواء الوضع مع أول وهلة.
وفي لقاء مع طبيبته، صباح برادة القباج، التي راكمت تجربة تزيد عن 20 سنة في هذا الاختصاص المرتبط بأمراض وعلاج وجراحة العيون والحول وعلم قوام الجسم، أفادت في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء أن عسر القراءة يعني الاضطراب في تعلم القراءة والكتابة بصورة طبيعية بالرغم من ملامح الذكاء التي قد يتمتع بها الطفل والمستوى البيداغوجي المتميز الذي توفره المدرسة التي يدرس بها، وكذا في غياب أي مشاكل عاطفية فضلا عن عيشه في ظروف عادية ومواتية.
وأوضحت أن من بين الأعراض التي قد تبدو جلية لدى المصابين ممن تتراوح أعمارهم في الغالب ما بين 9 و 15 سنة، وبنسب متفاوتة ما بين 10 و 15 في المائة لدى مجموع الأطفال المتمدرسين، صعوبة التحكم في الحركة (الصعوبة حتى في عقد أزرار المعطف أوخيط الحذاء)، والشغب اللاإرادي ونطق الكلمات بشكل غير مضبوط وصعوبة إجراء العمليات الحسابية.
وعلى هذا الأساس، تنصح الدكتورة بضرورة إجراء تشخيص مبكر، كما تدعو المعلمين والأساتذة وكافة الجهات المعنية إلى تتبع الحالات التي تعاني من الأعراض المذكورة من أجل المساعدة على احتوائها ومعالجتها في أقرب وقت ممكن، وذلك عبر القيام بكشوفات دقيقة ومعمقة لما يسمى بالحس العميق الذي قد تصاب فيه الحاسة السادسة باضطرابات وخلل وظيفي يتمثل في صعوبة الإدراك لما يحيط بنا بعيدا عن وظائف الحواس الخمس المعروفة والمعتادة (الشم، اللمس، البصر، الذوق، السمع).
وأضافت القباج أن هذا الاختصاص شهد خلال العقدين الأخيرين تطورا ملموسا بالمغرب على غرار ما هو متداول عبر العالم، حيث أسفر عن سلسلة من النتائج التي اتسمت بعودة العديد من التلاميذ إلى رحاب مدارسهم وتألقهم بشكل جيد في مشوارهم الدراسي والمهني بعد ذلك، وبالتالي تحسن أوضاعهم العائلية مع الحد من معاناة الآباء والأولياء .. ويبقى يزيد مثالا حيا يشهد عن ذلك.
وتلتقي الدكتورة في هذا الطرح مع ما جاء في تصريحات مماثلة على لسان كل من الخبيرين الدوليين البروفسور الداودي جعفر رئيس الجمعية المغربية للحول وطب العيون عند الأطفال (AMSOP)، والدكتور الباحث الفرنسي كرسيا باتريك، باعتبارهما عنصرين مؤسسين للجمعية العالمية لأمراض الحس العميق(ISPROD).
وفي هذا الصدد، لفت البروفسور الداودي إلى أن صعوبة التعلم يمكنها أن تمس حتى نسبة 20 في المائة من الأطفال، مما يدخلهم في دوامة من المعاناة المتنوعة والمتواصلة سواء على مستوى المدرسة أو داخل العائلة أو المجتمع وذلك لصعوبة فهم مجموعة من التصرفات اللاإرادية التي تصدر عنهم والتي قد توصف بنعوت قدحية من قبيل “مكلخ، كسول بليد وغيرها”، مع العلم أن الحل مع تقدم العلم أضحى متاحا وغير مستحيل.
وأبرز أن الحواس الاستدراكية المتصلة بكافة عضلات الجسم وخاصة بالأذنين والعينين ترسل إشارات للدماغ الذي يتصرف على إثرها، وكلما كانت المعلومات خاطئة فهي تفضي إلى إجابات خاطئة.
وحينها يستدعي الأمر، في رأيه، ضرورة تصحيح هذه المعلومات. ومن خلال ذلك، يتم الحد من صعوبة التعلم إلى جانب معالجة مجموعة من الأمراض الوظيفية. ويتم ذلك أساسا بوصف نظارات بنوعية خاصة من الزجاج القادر على توصيل المعلومة الدقيقة أو عبر تقويم الفك والفم أو باستعمال نعل طبي يبعث بالمعلومات من أسفل القدم، وذلك ما يسمح بإعادة البرمجة للحواس.
وما دام الشيء بالشيء يذكر، فإن الباحث الفرنسي كرسيا باتريك لفت بدوره إلى أن عسر القراءة لا تخلو منه أية دولة عبر العالم في صفوف المتمدرسين، والمفيد – في نظره – هو تزايد الوعي يوما بعد يوم حول هذا النوع من الإعاقة، حيث تمت محاصرتها بشتى الوسائل بما في ذلك الأدوية المعدة لإصلاح الاختلالات الجينية.
وباعتباره أستاذا جامعيا بفرنسا متخصصا في مثل هذه الاختلالات الوظيفية انطلاقا مما يعرف بالحاسة السادسة، أشار الخبير إلى أن ما توصلت إليه الأبحاث الأخيرة يؤكد أن هذه الحاسة لا تقتصر على إرسال الإشارات الإدراكية المتصلة بالعضلات للدماغ فحسب، بل تتعداها إلى اختيار المعلومات الإحساسية المستعملة عبر البصر والنطق.
وأضاف أنه، عبر معهد الأبحاث الدوائية بفرنسا الذي يعمل به، تم علاج أكثر من 15 ألف حالة تشكو عسرا في القراءة. ومن خلال اللقاءات التي أجراها لتبادل التجارب والخبرات، اكتشف أن هناك أطرا مغربية تملك الرغبة المشتركة في الخروج بنتائج إيجابية موحدة، وهذا ما دفع بإنشاء الجمعية العالمية لأمراض الحس العميق التي تشارك فيها حتى اليوم إلى جانب المغرب وفرنسا كل من إيطاليا وتركيا وإسبانيا والبرتغال. يذكر أن الجمعية المغربية للحول وطب العيون عند الأطفال نظمت بشراكة مع الجمعية العالمية لأمراض الحس العميق، يوم 18 دجنبر 2022 أبوابا مفتوحة بالدار البيضاء، تمحور موضوعها أساسا حول “صعوبة التعلم والحاسة السادسة”، حيث تم التأكيد على أن خلل الحس العميق قد يتسبب أيضا في آلام المفاصل (العنق والكتف ووسط واسفل الظهر) فضلا عن الصداع النصفي وفقدان التوازن والدوخة والتعب المزمن وعرق النسا “بوزلوم” أو الانزلاق الغضروفي.