الحجمري: الترجمة المؤسسية لاتكون إلا بالتعددية اللغوية

أكد عبد الفتاح الحجمري مدير مكتب تنسيق التعريب بالرباط التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ( ألكسو) أن الترجمة المؤسسية لا تكون إلا بالتعددية اللغوية التي هي إحدى مميزات القانون الدولي والعلاقات الدولية، مضيفا أنه عن طريقها تبرم الاتفاقيات وتتوطد العلاقات بين الدول والمنظمات والجمعيات والأفراد.

وأوضح الحجمري، في محاضرة ألقاها في مؤتمر دولي نظمه، هذا الأسبوع بالرياض، مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية بالمملكة العربية السعودية حول “اللغة العربية في المنظمات الدولية” أنه سواء اعتمد المترجم الترجمة التحريرية أو الفورية وفق ما يقتضيه السياق، فإن له دورا أساسيا في تحقيق التواصل بدون لبس أو غموض أو سوء فهم؛ مؤكدا أنه لا أحد ينكر اليوم أهمية المنظمات الدولية في إدارة العديد من قضايا العالم سياسيا واقتصاديا وثقافيا. ومن هنا، يقول المحاضر، يستمد التعدد اللغوي في المنظمات الدولية أهميته من اعتماده وفق ترتيبات قانونية ومؤسسية تحدد مجموع القواعد التي تحكم عمل المترجمين، وتجعل كل ممارسة لغوية محافظة على مصداقية الممارسات الأخرى؛ وهكذا تكتسي علاقة الترجمة بالتعدد اللغوي قيمة ليس بالإمكان إنكارها اليوم ، خاصة في المجتمعات التي تنشأ فيها توترات اجتماعية وسياسية.

وذكر الحجمري بأن التجليات الأولى للاهتمام العالمي باللغة العربية بدأت منذ سنة 1948 حينما قررت منظمة اليونسكو اعتمادها باعتبارها ثالث لغة رسمي ة لها بعد الإنجليزية والفرنسية؛ مشيرا إلى أنه أثناء عقد المؤتمر الأول لليونسكو عام 1974 تم اعتماد استعمالها في المؤتمرات الدولية.

وقال إنه “يوجد اليوم أكثر من 6000 لغة محكية، والبعض يصرح بأقل من ذلك، ولأن العبرة ليست بالعدد فقد يكون ضربا من ضروب الخيال تعل م كل هذه اللغات واللهجات؛ علما أن تداول هذا الكم الهائل من اللغات يتوزع بين المحلية الضيقة، والجهوية الموسعة قليلا، والعالمية”. وأضاف أنه بالنظر إلى ما يشهده العالم من تغيرات إقليمية ودولية ثقافية واجتماعية وسياسية، فإنه من الضروري حرص الدول العربية لتكون لغتهم في صلب رهانات التعاون الثقافي المشترك إقليميا ودوليا ليس بإصدار توصيات وتبني قرارات فاعلة وفعالة تضع برامج عملية تعزز الحضور في المحافل الأممية والدولية؛ مشيرا إلى أن مواكبة اللغة العربية للتعاون الدولي، وعلى أوسع نطاق، يعد رافدا لا غنى عنه لدعم اللغة ومشاطرة العالم قيمه الحضارية المتجددة، وتصحيح العديد من الصور النمطية السلبية السائدة عن العالم العربي والقضايا الإسلامية.

وفي السياق ذاته أبرز الحجمري أن أنشطة الترجمة في المنظمات الدولية تتميز بتعدد لغات، وتوفر تلك الأنشطة والبرامج كم ا هائلا من الوثائق التي يلزم ترجمتها؛ وعادة ما تتم ترجمة وتعريب تلك الوثائق وفق خطط تراعي خصوصيات الت عدد اللغوي، مؤكدا أن التعامل مع المادة الترجمية يعي أهمية الاجتهاد في نقل المصطلحات من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى أو من تلك اللغات إلى العربية بناء على المبادئ العامة للتقييس standardization في تصنيف العلوم وتنميط المصطلحات حسب التصنيف العشري الدولي CDU، باعتباره تصنيفا معمولا به في عدد كبير من الدول والمنظمات الدولية والإقليمية.

وأضاف أن اللغة العربية تتميز من بين بقية لغات العالم بقابليتها للتطور والاشتقاق، كما أنها أفادت الحضارات الأخرى بتراثها الغني في العلوم والآداب والفنون؛ مبرزا أيضا زيادة الاهتمام بتعل م اللغة العربية في مختلف الدول الأوروبية والأمريكية والأسيوية، فيما يضعها هذا الاهتمام الدولي بالعربية في صلب علاقات دولية تحتاج لتواصل لغوي يعزز أدوارها خارج مجال تداولها في البلدان العربية.

وأشار الحجمري، في هذا الصدد، إلى أن تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي (2016) حول أقوى عشر لغات في العالم بي ن أن العربية تحتل المرتبة الخامسة من حيث الأبعاد الجغرافية والاتصالية والإعلامية والاقتصادية والدبلوماسية؛ معتبرا أنه كان للقرار الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة حين قر رت إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل المقر رة في الجمعية العامة ولجانها الرئيسية إشارة دالة مفادها إدراك الجمعية الأممية ما للغة العربية من دور هام في حفظ ونشر حضارة الإنسان وثقافته ؛ ذلك أن دور العربية يتكامل مع أدوار بقية اللغات في إطار دمقرطة لغوية يقتضيها العمل الدولي في المنظمات المتخصصة، حيث لكل دولة نفس الحقوق وعليها نفس الواجبات.

وختم الحجمري محاضرته بالقول إن الاهتمام الدولي باللغة العربية في المنظمات الدولية جزء من الاهتمام بالتعدد اللغوي القادر على إنتاج رؤى متكاملة وإجابات متعددة من مصادر ثقافية تحقق توازنا لغويا لفهم كل التحديات الدولية، مشيرا إلى أن احتياجات الترجمة الناشئة عن العولمة أسهمت بوجه عام تزايدا في عدد المنظمات الدولية التي أضفت على الترجمة طابعا مؤسسيا ورسميا.

وأضاف أن الطابع السياسي والقانوني للنصوص المتعددة اللغات الصادرة عن البلدان المنتمية للمنظمات الدولية قد أدى إلى نشوء مجال حيوي من البحث، يتمثل في علم اللغة القانوني jurilinguistique الذي يستهدف فهم التحديات التي يطرحها استعمال “اللغة المزدوجة” من الناحية القانونية، مبرزا أن الترجمة لم تعد هنا تعني فقط إيجاد مقابل موضوعي لما ينشر من وثائق وقرارات، بل أصبحت تتضمن التوفر على نظام قانوني يحافظ على الوحدة في سياق متعدد اللغات.

وتتمثل أهداف مؤتمر “اللغة العربية في المنظمات الدولية” في بناء جسور التواصل والتعاون بين مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية والجهات المعنية بخدمة اللغة العربية، والمنظمات الدولية، والسعي لتعزيز مكانة اللغة العربية في المنظمات الدولية وبحث سبل اعتمادها ودعمها في تلك المنظمات.

وشارك في المؤتمر نخبة من العلماء والمفكرين والمسؤولين في المنظمات الدولية، وتضم ن مجموعة من الجلسات العلمية والحوارية تناولت محاور متنوعة مثل الواقع اللغوي في المنظمات الدولية وأهميته الإستراتيجية، والبعد الحضاري والثقافي للتعدد اللغوي ومسؤولية المنظمات الدولية حيال ذلك، واللغة العربية في المنظمات الدولية بين الصعوبات والحلول، والترجمة من العربية وإليها في المنظمات الدولية؛ الواقع وآفاق المستقبل، ومبادرات ومشروعات لتمكين العربية في المنظمات الدولية.

وشهد المؤتمر مجموعة من المبادرات المرتبطة بموضوع المؤتمر، كإطلاق مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية لـ “الإطار الإرشادي للتعددية اللغوية وحضور اللغة العربية في المنظمات الدولية”، وإطلاق المجمع لمشروع “مؤشر اللغة العربية”، بالإضافة إلى إطلاق مشروع المدرسة الدبلوماسية ضمن مسار قطاع البرامج التعليمية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.