الجديدة.. “البشكيرة” طريقة قديمة لصيد الأسماك تقاوم الاندثار

شكلت “البشكيرة” منذ مدة طويلة إحدى أهم وسائل صيد الأسماك بالشريط الساحلي الصخري للجديدة الممتد من الحوزية إلى مولاي عبد الله أمغار.

هذه الوسيلة من الصيد تشهد تراجعا يوما عن يوم لعدة أسباب منها وفاة “المعلمين” الذين اعتادوا مزاولتها وبناءها، علاوة على تراجع كمية الأسماك بالساحل الأطلسي وظهور وسائل عصرية للصيد الساحلي.

وبشأن تعريف “البشكيرة” فهي اسم مشتق من اللغة البرتغالية “Peixeira” وهي عبارة عن سور دائري من الحجر، يبنى بطريقة خاصة تستعمل فيه الأحجار البحرية، وتسمح بمرور وتراجع المياه في حالة المد والجزر، لتبقى الأسماك باختلاف أنواعها وأشكالها محتجزة، مما يسهل عملية جمعها من قبل أصحاب هذه “البشكيرات” أو البحارة المكلفين بمراقبتها.

وتنفرد مدينة الجديدة باحتوائها على أكبر عدد من “البشكيرات” لتوفرها على أكبر ساحل صخري يضم الأحجار والعشب لرعي الأسماك.

وتسهل عملية بنائها في حالة الجزر التي تدوم حوالي 6 ساعات وهو ما يسمى بحالة الجزر الكبيرة والصغيرة، والتي لها ارتباط وثيق بالشهر القمري.

وتنقسم حالة المد والجزر إلى قسمين، تمتد الأولى التي تسمى”مرية” القمر، من اليوم العاشر إلى اليوم السابع عشر من كل شهر عربي، ثم “مرية” الظلام وتمتد من اليوم 24 إلى اليوم الثاني من الشهر العربي، حيث تكثر الأسماك لأنها تخرج للرعي بالساحل الصخري لوجود “دويدات” صغيرة تقتات عليها.

وكانت هذه “البشكيرات” توفر لأصحابها صيدا وفيرا، حيث تمكنهم من ضمان مصاريف عيشهم ومصاريف دراسة أبنائهم ومتطلباتهم الحياتية. وكان مالكوها يبيعون الأسماك ويوزعون كميات كبيرة على معارفهم وجيرانهم وعلى الفقراء والمحتاجين.

من بين أنواع السمك التي يتم اصطيادها ب”البشكيرات، نجد سمك “البوري” و”الشرغو” و”الزريقة” و”الدرعي” و”حلامة” و”أولاح” و”السيريول” و”السردين” و”لانشوبا” و”كابايلا” و”القرش” و”اللويزي” وغيرها من الأنواع الأخرى.

في هذا الصدد، أكد أبو القاسم الشبري باحث أثري ومدير مركز دراسات وأبحاث التراث المغربي البرتغالي بوزارة الثقافة، في تصريح لقناة M24 التابعة لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن “البشكيرة” بالاسم البرتغالي أو “السطارة” بالاسم الدكالي، هي تقنية خاصة بالمنطقة تستعمل في صيد الأسماك، حيث تبنى في الأماكن التي تكون فيها حالة الجزر.

وأضاف الشبري، أن طريقة بنائها تأخذ وقتا طويلا، إذ تعتمد على الأحجار فقط، لكي تتيح للمياه غمرها بسهولة أثناء حالة المد ومغادرتها بيسر أثناء حالة الجزر، إذ يكون السور عريضا بطول متر ونصف تقريبا.

وأشار إلى أن أغلب “البشكيرات” اندثرت بسبب عدم مواصلة استغلالها وتخلي المعلمين عليها، حيث توفي أغلبهم ولم يبق منهم سوى واحدا لم يعد قادرا على ارتياد البحر.

وأضاف أن عملية استغلال “البشكيرات” كان يخضع لقانون خاص يحترمه الجميع، إذ يعمد صاحبها إلى وضع حجرة ظاهرة للعيان “قائمة” في دلالة على أن الأسماك ب “البشكيرة” ما تزال لم تجمع، وعندما يتغير الوضع (الحجرة نائمة)، فإن ذلك يعني أنه مر من هناك وجمع المحصول وبالتالي يسمح للسكان والمواطنين المرور بعده لجمع ما تبقى من الأسماك.

واشتهر ساحل الجديدة بتوفره على العديد من “البشكيرات” نظرا لوجود أشخاص كانوا في نهاية خمسينيات القرن الماضي يتوفرون على المال، فلجأوا إلى تكليف مشتغلين في مجال البناء لتشييدها مقابل بعض المال.

ويفرض وجودها صيانة دائمة، إذ تتعرض للانهيار كلما كانت أمواج البحر عاتية وبالتالي يتم ترميمها بشكل مستمر وهذا يتطلب بعض المال الذي لم يكن في متناول الجميع.

وعرف عن عدد من أعيان الجديدة آنذاك تملكهم لبعض “البشكيرات” ووضعها رهن إشارة البحارة والصيادين لتجميع الأسماك مقابل حصة يتم الاتفاق عليها من قبل.

وما تزال بعض “البشكيرات” تحمل أسماء أصحابها لحد الأن، منها “بشكيرة” “بوشريط” و”خشلاعة” و”المفضل” و”الضاوي” و”بوافي” و”خشان” و”الروندة” و”علو” وغيرهم. وفي تصريح مماثل، أكد امحمد هروم أحد سكان درب الخياري، أنه اعتاد المشاركة في عملية البناء مقابل درهم أو درهمين ، بل كان يشارك في صيانتها كلما انهارت بسبب علو الأمواج.

وأشار هروم إلى أن المنطقة الممتدة من الحي البرتغالي إلى سيدي بوزيد، كانت تتوفر على العديد من “البشكيرات” وكانت تنشط بشكل كبير خلال هذه الفترة من كل سنة، أي ما يعرف ب” الليالي” ومدتها 40 يوما، حيث تخرج الأسماك إلى الشط للرعي، ويتم اصطيادها عبر ترصدها ب”البشكيرات” وكان أصحابها يبيعون كمية كبيرة منها ويفرقون الكثير منها على الفقراء والمساكين.

وتأسف امحمد هروم على تراجع هذه التقنية، إذ انهارت “البشكيرات” وتراجع منتوج الأسماك لعدة أسباب منها التلوث الناتج عن رمي المياه العادمة وتكاثر قوارب الصيد التي تناهز اليوم 2000 قارب، في الوقت الذي لم يكن فيه بالجديدة كلها سوى قاربين اثنين فقط.

وكانت “البشكيرة” توفر أكثر من 1000 سمكة من مختلف الأنواع، ومنها من لا يقترب منه الصيادون ويتركونه حرا ليعود إلى أعماق البحر بعد امتلاء “البشكيرة” من جديد.

في الاتجاه ذاته، أكد عبد الرحيم محداد من سكان حي القصر الأحمر أنه عاش مع عدد من المعلمين المتخصصين في بناء “البشكيرات” منهم المعلم عبد الله ” الساكن” وعبد الله ولد المعتوك والمعلم محمد الزنزون، والمعلم شيبوب.

ويتذكر محداد أنه وهو صغير السن أنه شاهد يوما صاحب “بشكيرة” جالسا على الشاطئ ينظر بتوجس للبحر ويدخن بشراهة، ولما اقترب منه وسأله عن السبب، أخبره أن كلب الماء (القرش) تهجم على “البشكيرة” وأفزع الأسماك، وأكل منها ما أكل وفرق الباقي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.