استثمارات المهاجرين المغاربة بسوس؛ بين غياب الدعم وتعقيد الإدارة

ارتفعت في العقود الأخيرة، بفعل الأزمات الاقتصادية المسجلة بالدول الأوربية، حدة عودة المهاجرين المغاربة، عودة صاحبها انخراط المهاجرين في أنشطة اقتصادية بمناطق الانطلاق، حيث تم تسجيل ارتفاع عدد الاستثمارات التي قام بها المهاجرون العائدون بشكل ملحوظ، استثمارات من شأنها أن تخلق دينامية اقتصادية وحركية عمرانية.

في دراسات أنجزت بهذا الخصوص، ومنها بحث ميداني أجريناه بمجالات سوس وخصوصا بأولاد تايمة عن مهاجريها المستثمرين بها، بينت تلك الدراسات أن استثمارات هؤلاء المهاجرين همت أساسا قطاعي الخدمات والتجارة، وتعد المقاهي ومحلات المواد الغذائية من أهم المشاريع التي استثمر فيها المهاجرون الدوليون بسوس، نظرا لأن هذا النوع من الاستثمار لا يتطلب خبرة كبيرة، ومخاطره قليلة، وأرباحه لا بأس بها، ويظل الاستثمار في قطاعات هيكلية كالصناعة ضعيفا جدا، فقد سجلنا، على سبيل المثال، غيابا كليا لأي مشروع للمهاجرين بالحي الصناعي لمدينة أولاد تايمة، عاصمة القطاع المسقي لهوارة بسوس، وبنسب جد ضعيفة بالأحياء الصناعية الأخرى، هذا الوضع يدفعنا للتساؤل عن مدى مواكبة الدولة ومؤسساتها المجالية لاستثمارات هؤلاء المهاجرين؟ وهل تم تأطيرهم ومواكبتهم وتوجيههم نحو القطاعات الاقتصادية الواعدة والتي انخرطت الدولة في دعمها حسب برامج تنمية كل جهة؟

الرغبة في العودة النهائية للمغرب كان أهم دافع لمهاجري سوس على الاستثمار

تنوعت دوافع الاستثمار لدى المهاجرين الدوليين تبعا لعدة اعتبارات تختلف من مهاجر لآخر، دوافع استطعنا أن نجملها في خمس متغيرات رئيسة هي:

– الرغبة في الاستثمار والاستقرار بالمغرب: فقد قرر حوالي 83% من المهاجرين المستثمرين بأولاد تايمة بسوس الاستثمار بالمدينة رغبة منهم في العودة والاستقرار نهائيا بالمغرب، فقد صرح جزء مهم من المهاجرين المستثمرين بعدم رغبتهم في تلقي أبنائهم تعليما أوليا بالمهجر كي لا يتشبعوا بثقافة بلد المهجر، ولهذا ظل هؤلاء المهاجرون يتحينون الفرصة للعودة مع أبنائهم إلى المغرب.

لقد صرح أحد المهاجرين أن عودته واستثماره بالمغرب جاء من توجسه وخوفه من هامش الحرية الكبير الذي تتمتع به المرأة والطفل بأوروبا، وهو ما قد يقوض أسس الأسرة وتماسكها حسب رأيه، وهذا ما أكده لنا السيد (ع)؛ مهاجر مستثمر، بالقول: “تلك ثقافة غريبة عنا، نحن مسلمون ولا نرضى بذاك الانفتاح. أولادك لن يعودوا أولادك هناك، قد تسجن إن قمت بتربيتهم كما تريد … المرأة أيضا تصير خارج السيطرة هناك … قد تتنكر لك في أية لحظة … عالم آخر يعيشه المغاربة هناك.. مساكين!!”.

كما أكد جزء آخر من المهاجرين أنهم عادوا واستثمروا بالمغرب لكي يظلوا قريبين من آبائهم وعائلاتهم، ليعيشوا الجو العائلي الغائب عن المجتمعات الغربية. هذا الميل العاطفي للعيش بالقرب من العائلة نجده حاضرا بقوة لدى المهاجرين الأوائل والجيل الأول منهم، لكنه آخذ في النقصان مع تقدم الأجيال. فقد صرح السيد (ج)؛ أحد المهاجرين المستثمرين بأولاد تايمة، بالقول: “تلك بلاد باردة في كل شيء … نحن هنا اعتدنا على الجو العائلي والأصدقاء والجيران … أبوابنا مفتوحة دائما … كبرنا وسط أعمامنا وأخوالنا وجداتنا. هناك لا وجود لشيء اسمه العائلة… لا شيء هناك يعوضك عن جلسة مع الوالدين والإخوة … أما أن تجلس رفقة الأصدقاء وأنتم ترتشفون كؤوس الشاي كما اعتدنا على ذلك في هوارة فذاك من المستحيلات هناك“.

– الأزمة الاقتصادية: فقد أدت الأزمة الاقتصادية التي عرفتها أوروبا إلى عودة عدد كبير من المهاجرين لبلدانهم الأصلية، المغرب كان من بين الدول التي تأثرت جاليته بذلك، خصوصا المهاجرين الذين هاجروا في العقود الأخيرة نحو إسبانيا وإيطاليا. هذه الأزمة جعلت العديد من المهاجرين يستثمرون عائدات الهجرة في مشاريع اقتصادية بمناطقهم الأصلية. فقد استثمر حوالي 26% من المهاجرين مدخراتهم بعد عودتهم من أوروبا بعدما توقفت أنشطتهم الاقتصادية هناك، وقد أكد لنا السيد (ر) ذلك بالقول؛ وهو مهاجر عائد من إيطاليا: “آلاف المغاربة عادوا بعد أزمة أوروبا، منهم من تأزم نفسيا ومنهم من يصارع الزمان في صمت، من جمع قليلا من المال عاد وأنشأ استثمارا مؤقتا ريثما تتحسن الأوضاع مجددا بالمهجر، أعرف عددا مهما من المغاربة بإيطاليا لا يجدون مسكنا ولا مأوى وتمنعهم كبرياؤهم وأقوال الناس من العودة للمغرب، ماذا سيقول الناس عنهم، إنها مأساة

مقر الجماعة الترابية أولاد تايمة
مقر الجماعة الترابية أولاد تايمة

 

يعتبر قطاعي الخدمات والتجارة أهم قطاعين جاذبين لاستثمارات المهاجرين

توزعت استثمارات المهاجرين بسوس بطريقة غير متساوية بين مختلف قطاعات الأنشطة الحضرية، فقد احتل قطاع التجارة بأولاد تايمة الرتبة الأولى كأول قطاع استثمر فيه المهاجرون بنسبة بلغت حوالي 41%، أتى بعده قطاع الخدمات بنسبة 30%، ما يعني أن 71% من الأنشطة الحضرية للمهاجرين بالمدينة تتوزع أساسا بين قطاعي الخدمات والتجارة، على اعتبار أن هناك من التصنيفات ما يجمع التجارة والخدمات في صنف واحد، أما باقي الاستثمارات فقد همت قطاع الفلاحة (20%) وقطاع الحرف وقطاع الصناعة (11%).

اعتمد معظم المهاجرين المستثمرين على عائدات الهجرة في تمويل مشاريعهم بالمغرب

مول جزء مهم من المهاجرين المستثمرين بمدينة أولاد تايمة مشاريعهم الاقتصادية، فقد وجدنا أن نسبة المهاجرين الذين اعتمدوا في تمويل مشاريعهم على تحويلاتهم المالية بلغت 73%.

لقد لاحظنا وجود نسبة مهمة من المهاجرين الذين اعتمدوا في تمويل استثماراتهم على مبالغ مالية سلمت لهم من طرف عائلاتهم، ولم تتعد نسبة المهاجرين الذين اعتمدوا في تمويل جزء من مشاريعهم على القروض البنكية 11%، هذا ومول 16% من المهاجرين استثماراتهم عن طريق قروض حصلوا عليها من العائلة ومن علاقاتهم الاجتماعية الخاصة.

محدودية استفادة المهاجرين من خدمات الدولة، ومن البرامج الاقتصادية الرسمية

إن جزء كبيرا من المهاجرين الدوليين المستثمرين لم يتواصلوا مع مؤسسات الدعم والتمويل ولم يستفيدوا منها حسب ما سجلناه من مقابلاتنا مع جزء مهم منهم بسوس وبأولاد تايمة خصوصا، فقد سجلنا اعتماد المهاجرين المستثمرين بمدينة أولاد تايمة بشكل شبه كلي على عائدات الهجرة في تمويل استثماراتهم بالمغرب، ولهذا أسباب نقدرها كما يلي:

– حجم الثقة المتدني في مؤسسات التمويل خاصة وفي مؤسسات الدولة عامة،

– ضعف وعدم معرفة المهاجرين بالمؤسسات التي بوسعها تقديم مختلف أشكال الدعم والتمويل لاستثماراتهم،

– تعقيد المساطر الإدارية والقانونية المرتبطة بالاستفادة من الدعم والتمويل.

لقد سجلنا فيما سبق، أن نسبة هامة تقارب 75% من مجموع المهاجرين المستثمرين بمدينة أولاد تايمة قد اعتمدوا في تمويل مشاريعهم الاقتصادية على أموالهم الخاصة التي جلبوها من الخارج. كما لجأ حوالي 11% منهم إلى الأبناك للحصول على قروض، عموما، فإن الضعف المسجل في دعم ومواكبة وتمويل المؤسسات الرسمية ومؤسسات التمويل لمشاريع المهاجرين أرجعته نتائج البحث إلى عدة نقاط هي:

  • صعوبة الولوج إلى المعلومة بخصوص مؤسسات الدعم المتوفرة للمهاجرين؛
  • اختيار مشروع الاستثمار يتم دون وضع معيار قابلية تمويله ودعمه، ومدى مسايرته مع أحد المخططات القطاعية الممولة من طرف الدولة؛
  • الاكتفاء بالمدخرات الشخصية في التمويل، وعدم رغبة المهاجرين في طلب قروض بنكية، يفسر كذلك محدودية مشاريع المهاجرين وارتباطها بحجم الرأسمال. بمعنى أن مشاريع المهاجرين ترتبط بما يملكون من رأسمال وليس إلى ما يمكن بلوغه من دعم وتمويلات؛
  • البعد النفسي والوازع الديني لدى بعض المهاجرين الذين يرون في القروض البنكية إما ربا لا يجوز التعامل بها، أو همًّا وقلقًا يصاحب المدين. كما عبر عن ذلك أحد المهاجرين بمدينة السبت أولاد النمة (س) بالقول: “قليل دائم وفي ملكيتي خير لي من أملاك يمكن أن تصادر في أي وقت، عدت كي أرتاح وأستقر، لا أريد الخوض في مشاريع هنا وهناك ولا أعرف رأسي من رجلي، البنوك تقابلك بوجه سرعان ما يتحول لكابوس بعد التوقيع على القرض، ثم أصلا الربا حرام، حرام عندنا كما قال لنا الفقهاء
  • رفض البنوك لطلبات قروض التمويل التي تقدم بها المهاجرون نظرا إما لضعف ملف المشروع أو لعدم اكتمال الملف القانوني أو لغياب عناصر الضمان لديها؛
  • عدم تمكن المهاجرين من الانخراط في “مجتمع العلاقات” بمناطقهم الأصلية، فغيابهم الطويل عن المنطقة وضعف اندماجهم أثناء فترات العودة حد من علاقاتهم الشخصية مع المسؤولين والأعيان، وهو الأمر الذي قد لا يمكنهم من الولوج لمجال التمويلات بسهولة.

فكلما سألنا مهاجرا مستثمرا عن طبيعة الدعم الذي استفاد منه من مؤسسات الدولة وهيئاتها المختلفة إلا وكانت إجابته بالنفي، فهو يعتقد أن الدولة إنما تسعى للاستفادة من تحويلاته المالية من العملة الصعبة ليس إلا، “دعم الدولة!! … الدولة لا تعترف بنا إلا مرة واحدة في السنة، شهر غشت من كل سنة تقول لنا مرحبا… وبعدها.. شكرا على الزيارة… الله ارحم اللي زار أُوخْفَّفْ، أصلا نحن لسنا في حاجتها.. نريد أن تدعنا وشأننا فحسب“. هكذا يفسر (س)، مهاجر من أولاد تايمة علاقة المهاجرين بالدولة، جواب تردد علينا مرات كثيرة واقتنع به الكثيرون منهم.

واجه المهاجرون المستثمرون صعوبات متنوعة أثناء إنجازهم لمشاريعهم الاستثمارية

لم يكن الاستثمار بالأمر السهل على المهاجرين، فقد اعترضتهم عدة عراقيل خلال عملية إحداث المشاريع، فالتعقيدات الإدارية والفساد الإداري كانا أهم ما اعترض تطور مشاريع المهاجرين المستثمرين بنسبة 60%.

ويمكن أن تؤثر تلك التعقيدات الإدارية في طبيعة المشروع، فالمهاجر يفضل إحداث مقهى أكثر من شيء آخر (38%) نظرا لأن مردوديته أعلى وأسرع، ولأن حصوله على رخصة المزاولة غير معقدة بالمقارنة مع مشاريع أخرى.

صاحب الجلالة: ماذا وفرنا لأفراد الجالية لتوطيد ارتباطها بالوطن؟

كل تلك الصعوبات والإكراهات التي عرفتها مشاريع المهاجرين المغاربة، وغياب الدولة في توجيهها ودعمها، تطرق لها صاحب الجلالة الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة الذكرى الـ69 لثورة الملك والشعب، فقد وجه جلالته تحية إشادة وتقدير، لأفراد الجالية المغربية المقيمة بالخارج، الذين يبذلون كل الجهود للدفاع عن الوحدة الترابية، من مختلف المنابر والمواقع التي يتواجدون بها. جالية تقدر بحوالي خمسة ملايين، إضافة إلى مئات الآلاف من اليهود المغاربة بالخارج، في كل أنحاء العالم.

الارتباط الوثيق لمغاربة العالم بالوطن، كما أكده صاحب الجلالة، وتعلقهم بمقدساته، وحرصهم على خدمة مصالحه العليا، رغم المشاكل والصعوبات التي تواجههم، لا يقتصر فقط على الجيل الأول من المهاجرين؛ وإنما يتوارثه جيل عن جيل، ليصل إلى الجيلين الثالث والرابع.

فماذا وفرنا لأفراد الجالية لتوطيد هذا الارتباط بالوطن؟ سؤال جوهري طرحه صاحب الجلالة، حفظه الله، على المسؤولين وصناع القرار، وهل الإطار التشريعي، والسياسات العمومية، تأخذ بعين الاعتبار خصوصياتهم؟ وهل المساطر الإدارية تتناسب مع ظروفهم؟ وهل وفرنا لهم التأطير الديني والتربوي اللازم؟ وهل خصصنا لهم المواكبة اللازمة، والظروف المناسبة، لنجاح مشاريعهم الاستثمارية؟

صاحب الجلالة الملك محمد السادس
صاحب الجلالة الملك محمد السادس

لذلك، ولمعالجة مختلف العراقيل والصعوبات التي يواجهونها أثناء قضاء أغراضهم الإدارية، أو عند إطلاق مشاريعهم بالمغرب، وضع جلالة الملك خارطة طريق لهذا الغرض، تتأسس كما يلي:

1- إشراك الجالية في مسار التنمية: فالمغرب، كما أكده صاحب الجلالة، يحتاج اليوم، لكل أبنائه، ولكل الكفاءات والخبرات المقيمة بالخارج، سواء بالعمل والاستقرار بالمغرب، أو عبر مختلف أنواع الشراكة، والمساهمة انطلاقا من بلدان الإقامة.

2- تمكين الكفاءات المغربية بالخارج من المواكبة: فالجالية المغربية بالخارج، حسب ما أكده صاحب الجلالة، معروفة بتوفرها على كفاءات عالمية، في مختلف المجالات، العلمية والاقتصادية والسياسية، والثقافية والرياضية وغيرها. وهذا مبعث فخر للمغرب والمغاربة جميعا، حان الوقت لتمكينها، من المواكبة الضرورية، والظروف والإمكانات، لتعطي أفضل ما لديها، لصالح البلاد وتنميتها.

3- إقامة علاقة هيكلية دائمة مع الكفاءات المغربية بالخارج، بما في ذلك المغاربة اليهود.

4- إحداث آلية المواكبة، مهمتها مواكبة الكفاءات والمواهب المغربية بالخارج، ودعم مبادراتها ومشاريعها.

5- التعرف على الكفاءات والمواهب المغربية بالخارج، والتواصل معها باستمرار، وتعريفها بمؤهلات وطنها، بما في ذلك دينامية التنمية والاستثمار.

6- تجديد الدعوة للشباب وحاملي المشاريع المغاربة، المقيمين بالخارج، للاستفادة من فرص الاستثمار الكثيرة بأرض الوطن، ومن التحفيزات والضمانات التي يمنحها ميثاق الاستثمار الجديد.

7- ضرورة انفتاح المؤسسات العمومية، وقطاع المال والأعمال الوطني، على المستثمرين من أبناء الجالية؛ وذلك باعتماد آليات فعالة من الاحتضان والمواكبة والشراكة، بما يعود بالنفع على الجميع.

8- تحديث وتأهيل الإطار المؤسسي، الخاص بهذه الفئة العزيزة من المواطنين، كما وصفها صاحب الجلالة، ويجب إعادة النظر في نموذج الحكامة، الخاص بالمؤسسات الموجودة، قصد الرفع من نجاعتها وتكاملها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.