اتخذته الأجيال الغابرة وسيلة للتسلية، فكونه من أهم وسائل الاتصال في زمن “فلينستون”. منحه ذلك مكانة في زمن قلت فيه التكنولوجيا. فقد ظل الراديو صديقا وفيا لكل أفراد العائلة قبل وبعد أن يدخل بيتنا شيئ اسمه التلفزيون أو “الصندوق العجيب”، الذي عاش بدوره طفرات جعلته يبدو كما هو عليه اليوم.
يستيقظ الناس على ساعة المذياع ” عند الإشارة تكون الساعة …” ويقودون سيارتهم الى العمل برفقته، فكان لهم خير جليس يؤنسهم في راحتهم و ترحالهم. فأصبح هذا الجهاز قبل أن يتحول الى نقرة على جوالك كمسمار جحا، ذلك المسمار العالق بأرواحنا لا ننفك أن نتخلص منه إلا بقدرة قادر. ليعود بنا كل مرة الى نوستالجيا زمن الأبيض والأسود زمن الآباء والأجداد. فوجوده في حياتنا يجعلنا لا نتوانا لحظة عن التجوال في المنزل بحثا عن الاشارات والموجات الكهرومغناطيسية، كفأر يبحث له عن قطعة طعام يسكت بها أمعاءه هنيهات قليلة، أو روحه الى الأبد. .
فمع هذا الجهاز كانت العائلة المغربية تتجمع في غرفة واحدة يتولى رب الاسرة مهمة النقر على الأزرار، فيتحلق حوله الأبناء والأحفاد للإستماع لحلقات جديدة من التمثيليات والبرامج المرحة الخفيفة وبرامج المنوعات والخطب الدينية وبرامج الوعظ والارشاد. فلم يكن ليفوتهم سماع البث المباشر لمجلس النواب والمستشارين.
فلا أخفيكم سرا أني كنت في صغري لا أطيق سماع جلسات البرلمان، فقد كانت تلك القبة تعكر صفو مزاجي، فلم تكن لي جرأة البوح لوالدي بأنه تملكني رغبة شديدة في كسر ذلك المذياع الخشبي الذي ورثه عن أمه أيام الأبيض والأسود في كل جلسة برلمانية، أو العبث بأمعائه فهي لا تصلح حتى للنقانق لكنت اتخذتها لذلك.
ففي مساء كل ثلاثاء ومع قدومي من المدرسة كان صوت الوزير الأول يصلني صداه في مؤخرة الزقاق، فقد كان صوته يعلوا على صوت طاحونة العم مسعود في بيتنا القديم. على الأقل في ذلك الزمان كانت لتلك القبة قدسيتها.
تذكرت عندما كنت طفلة كان بحوزتي مذياع صغير اهداني إياه والدي بطريقة غير مباشرة، فنظرا لسلطته الخارجة عن المألوف لم يكن يتجرأ أن يهدي أحدنا شيئا بشخصه، خوفا من أن نتمرد عليه في اليوم الموالي، فنسعى الى اسقاط النظام في الأسبوع التالي.
والواقع أن الروايات متضاربة بخصوص حصولي على ذلك المذياع فأمي رحمة الله عليها تقول بأني وجدته في كيس خردة أمام بيت جارنا الإيطالي، وأخي الذي يكبرني يقول بأني ولدت وفي يدي اليمنى مذياع، وكل تلك الروايات ضعيفة وقد تكون الرواية الأولى قد رويت بسند حسن فلا أظن أن والدي سيهديني مذياعا وانا لا أتجاوز سبع سنوات.
أتذكر الآن كيف نجح هذا الجهاز في إشاعة جو من الخوف والرعب في نفسي، فقد كنت خلالها وأنا طفلة بالإبتدائي من المدمنات على برامج البوح عبر الأثير، أتذكر صوت محمد عمورة الذي يطل علينا ببرنامجه “منكم وإليكم” الذي كانت الإذاعة الوطنية أنذاك تؤنسنا به أو بالحرى ترعبنا به مساء كل أحد. فأستيقظ في الصباح الباكر الى المدرسة وكلي خوف فترتعد فرائسي بمجرد أن أصادف أحدا في الزقاق في طريقي الى المدرسة، لكن سرعان ما يزول ذلك الشعور مع نهاية الدوام. ليضرب لي موعدا جديدا في الأسبوع المقبل مع بوح جديد.
ومن شدة تعلقي بذلك الراديو فقد كنت أنفض عنه الغبار باستمرار فأمسح جلاده بالماء الحار، فبين الفينة والأخرى كنت أنفض الغبار عن أمعاءه فأعيدها الى مكانها فأحكم إغلاقه، قبل موعدي الليلي مع برنامج المنوعات “بيت الصداقة” على أثير إذاعة “ميدي أن” الى أن أغفو فأستيقظ في الصباح الباكر ومذياعي يئن محتضرا، فأنذب حظي على نومي المفرط الذي ابتلاني الله به، فأخبطه بيدي لعله يستعيد البث، ما يدفعني رغما عن أنفي الى عض بطارياته السامة لعلها تفي بالغرض في سمر ليلي قادم .
بالفعل فقد كان مذياعي الصغير خير جليس لي أيام المرحلة الإبتدائية و الإعدادية. في ذلك الوقت وحيث التلاميذ منشعلون بلعب “الورق” في فضاء المؤسسة في شهر رمضان، كان مذياعي يغنيني عن كل ذلك، فكم من مرة تعرضنا لمطاردة بوليسية من الحارس العام، ليقبض علي متلبسة بالجرم وأنا أحمل مذياعي بيدي بدل ” أوراق اللعب”. قبل أن يتحول مذياعي الى جمجمة كثيرة العطب لا تجدي ولا تنفع.
صحيح أنه مجرد مذياع إلا أنه في ذلك الوقت كان أهم إنجاز حققته البشرية. ومع الأيام أصبح مجرد شيخ هرم يئن في زاوية الغرفة يسترجي مؤنسا يعيد له حياته ويسافر به عبر كوكبة الزمان الى ماض يتمنى عودته.
فمع هذا الكم الهائل من الموجات الإذاعية، فقد عاد الراديو الى حياتنا من جديد، ونحن في زمن الذكاء الاصطناعي وفي جعبته الكثير ليحكيه، إذ يحاول أن يمنح لكل واحد منا جرعته اليومية من خلال سلسلة من البرامج المتنوعة التي تستهدف مختلف الشرائح داخل المجتمع، بغية نشر الوعي ونفض الغبار عن كل ما من شأنه أن يعيق عجلة تقدم الأمة.