تعتبر الفلاحة العصرية واحدة من أهم عوامل جذب السكان والهجرة القروية الى مناطقها، ومساهما رئيسيا في استقرار السكان وظهور المدن والمراكز الحضرية بها، فقد شهد سهل تادلا، على سبيل المثال، بفعل التحديث الفلاحي والتجهيزات الهيدروفلاحية المشيدة به حركة تمدينية وحضرية هامة، نظرا لما استقطبته من هجرة قروية ويد عاملة فلاحية، خصوصا من المناطق الجبلية الأكثر فقرا.
هذا السهل الذي سجل استقطابا حادا للقرويين ولليد العاملة الفلاحية سرعان ما تحول لأهم طارد لسكانه نحو الخارج، حيث انطلقت به أفواج بالآلاف صوب اسبانيا وايطاليا بعد أن أصبحت الفلاحة العصرية غير آمنة اقتصاديا للأسر الفلاحية، التي نظرت للهجرة كصمام أمان لها ولشبابها ومن أهم مطوري فلاحتها العائلية بفعل الموارد المالية المتحصل منها، فقامت بتشجيع شبابها على الهجرة وتكفلت بتمويلها كاملة معتبرة إياها استثمارا عائليا سيعود بالنفع على الجميع.
سهل تادلا الفلاحي.. من أوائل المناطق السقوية بالمغرب
سهل تادلا يخترقه نهر أم الربيع، الذي يعتبر أحد أهم الأنهار المغربية، يقسمه إلى نطاقين ينحدران صوب النهر: نطاق بني عمير في الضفة اليمنى عاصمته مدينة الفقيه بن صالح، ونطاق بني موسى في الضفة اليسرى عاصمته مدينة بني مـلال.
ارتكز اقتصاد سهل تادلا حتى أواخر القرن 19 على الرعي كنشاط أساس، وعلى الزراعة الموسمية كمورد تكميلي. كما اعتمد الإنتاج الفلاحي على تقنيات عتيقة لا تسمح بالرفع من حجم المحصول ومن تحقيق فائض به. اعتنى السكان – إضافة إلى تربية الماشية – بالزراعة البعلية وخاصة زراعة القمح والشعير التي كان مردودها ضعيفا نظرا لتأثرها الشديد بالتقلبات المناخية، أما الزراعة المسقية التقليدية كانت تشغل فقط مساحات صغيرة بالمناطق المحاذية لبعض روافد نهر أم الربيع ومنطقة الدير نظرا لوفرة المياه وخصوبة تربتها. لكن السهل سيعرف تحولات كبيرة مع دخول الاستعمار الفرنسي، الذي جاء بنمط حديث لتنظيم المجال يرتكز على تقنية السقي العصري.
شرع الاستعمار الفرنسي منذ ثلاثينات القرن 20 في إقامة مشاريع هيدرو فلاحية، لاستغلال الموارد المائية التي يزخر بها السهل والمنطقة الجبلية المحاذية له، من أجل تكثيف الإنتاج الفلاحي وتنويعه حتى يلبي حاجيات السوق والصناعة الفرنسية من المواد الفلاحية. فتم تشييد سد الزيدانية سنة 1929 من أجل تحويل جزء من مياه أم الربيع لسقي سهل بني عمير. وانطلاقا من سنة 1937 شرع في سقي الأراضي بواسطة شبكة من السواقي التقليدية لتبلغ المساحة المسقية في مرحلة التهيئة الأولى 28 ألف هكتار في حدود سنة 1954. ابتداء من سنة 1954 سيشرع في سقي سهل بني موسى اعتمادا على مياه سد بين الويدان الذي بني على واد العبيد. سيصبح هذا السهل فيما بعد أهم قطاع مسقي على مستوى تادلا، فقد استصلحت الأراضي وضُمت، وأقيمت شبكة من قنوات السقي، كما أحدثت شبكة الطرق والمسالك التي تربط بين مختلف مناطق السهل. كما تم إخضاع استعمال الأرض المسقية لدورة زراعية إجبارية كخطوة أولى نحو تغيير نظام الإنتاج الزراعي التقليدي بنظام إنتاج آخر عصري، تحتل فيه الزراعات التسويقية مكانة الصدارة. حيث شجعت مجموعة من الزراعات الجديدة التي تزايدت المساحة المخصصة لها بشكل واضح مثل زراعة القطن وزراعة الخضر والقطاني والزراعات العلفية وغرس أشجار الزيتون والكروم والمشمش وغيرها، وحظيت تربية الأبقار بأهمية كبيرة الشيء الذي أدى لرفع إنتاج اللحوم والحليب ومشتقاته.
إبان الاستقلال، استمرت عملية ضم الأراضي وتجهيزها بقنوات السقي، فبلغت مساحة الأراضي المسقية سنة 1990 حوالي 115 ألف هكتار، توجد حوالي 62% منها بقطاع بني موسى، وما تبقى يضمه قطاع بني عمير. وانتقلت من1026 هكتار مجهز بالري الموضعي الفردي سنة 1995 إلى 5084 هكتار سنة 2003 قبل أن ترتفع إلى 14100 هكتار خلال سنة 2010.
وحاليا تتكون البنية التحتية المائية بهذه الدائرة، التي تستفيد من حقينة سدي بين الويدان (1243 مليون متر مكعب) وأحمد الحنصالي (740 مليون متر مكعب)، من 212 كلم من القنوات الرئيسية و2945 كلم من القنوات الثانوية أو الثلاثية، إلى جانب شبكة لصرف المياه تمتد على مسافة 1933 كلم. وتسهم هذه المنطقة التي تضم 27 ألف فلاحا بحوالي 20 بالمائة من الإنتاج الوطني من الشمندر و17 بالمائة من الحوامض و13 في المائة من الأعلاف و11 بالمائة من الحليب، و8 بالمائة من الزيتون.
لقد أدى امتداد السقي العصري بتادلا بعد الإستقلال، والتحول الذي عرفه نظام الإنتاج الفلاحي إلى ظهور صناعة غذائية هامة به. فقد اهتمت بعض الوحدات التحويلية التي استقرت بالمراكز الحضرية بمعالجة المنتوجات الفلاحية وبإنتاج مواد منها ما هو موجه للتصدير كالحوامض والقطن، ومنها ما يتم صرفه بالسوق الوطنية كالسكر والدقيق وزيت الزيتون والحليب ومشتقاته والمواد العلفية.
لكن سرعان ما تراجع إنتاج هذه الصناعة الغذائية، وتوقفت أغلب الوحدات الصناعية عن العمل في العقد الأخير من القرن العشرين، فرغم إحداث منطقة صناعية بمدينة بني ملال سنة 1989 فإن عدد الوحدات الصناعية الغذائية لم يتطور بالشكل المطلوب والمتوقع، فوفق معطيات غرفة التجارة والصناعة والتكنولوجيات الحديثة ببني ملال تم إغلاق جميع معامل السكر ومعامل حلج القطن وصناعة الخيوط القطنية. هذا التوقف عن العمل أدى لتسريح العمال ما خلق أزمة تشغيل بالمنطقة، فلا الفلاحة عادت توفر مدخولا جيدا للأسر ولا الصناعات الفلاحية أصبحت تستوعب الأعداد التي تدخل سنويا إلى سوق الشغل. ما أدى لبروز ظواهر سوسيو اقتصادية جديدة غير متوقعة، رغم المجهودات المبذولة لتطوير القطاع الفلاحي بسهل تادلا آنذاك، ومن نقاط الضعف المسجلة في هذا القطاع:
• تراجع مردودية زراعة الشمندر والتوقف عن زراعة القطن، فلم تعد المزروعات الفلاحصناعية (الشمندر والقطن) تسهم بشكل فعال في تحسين الدخل الفلاحي وبشكل خاص دخل الفلاحين الصغار، فقد أدى ذلك إلى تراجع مساحة المزروعات الصناعية مما ساهم في تقليص ساعات العمل بالحيازات الفلاحية.
• الاستغلال المفرط للمياه الجوفية صاحبه انخفاض مستوى الفرشة المائية، ملوحة الأتربة، وتلوت المياه الجوفية بسبب تركز مادة النترات جراء الاستعمال المكثف وغير العقلاني للأسمدة والمبيدات الحشرية.
• توافد عدد كبير من المهاجرين وتزايد حجم اليد العاملة غير المؤهلة وتنامي مدن الصفيح بالمراكز الحضرية.
• فقدان فرص الشغل لعدد كبير من اليد العاملة الفلاحية بسبب تراجع الفلاحين عن ممارسة زراعة الشمندر.
• عدم التساوي في ملكية الأرض الفلاحية بالسهل، حيث نجد أن الملكيات التي تقل مساحتها عن هكتارين تمثل 40,7 % من مجموع الملكيات داخل القطاع المسقي بالسهل وتغطي فقط 12,3 % من المساحة الفلاحية، في حين تستحوذ الملكيات التي تتجاوز 20 هكتارا على حوالي 19,2 % من مجمل الأراضي الفلاحية رغم أنها لا تمثل سوى 1,8 % من مجموع الملكيات.
• أدى التقويم الهيكلي الذي نهجته الدولة مع بداية الثمانينات إلى الإلغاء التدريجي للدعم الموجه لبعض الزراعات وكذلك عن الفلاحين، وهو الأمر الذي جعل الجزء الأكبر من فلاحي سهل تادلة يبحثون عن موارد اقتصادية جديدة تمكنهم من تمويل زراعتهم، وقد وجد هؤلاء الفلاحون في هجرة أبنائهم نحو الخارج موردا لذلك.
كثافة سكانية مرتفعة وبروز مدن ومراكز جديدة
عرفت منطقة تادلا نموا ديموغرافيا كبيرا منذ فترة الاستعمار، نمو أسهم فيه ما تلقته المنطقة من حافز على التطور بإنجاز عدة استثمارات هيدرو-فلاحية مهمة، وهو ما تلاه بروز تحولات اقتصادية واجتماعية استمرت إلى ما بعد الاستقلال. تحولات أصبحت على إثرها تادلا منطقة جذب رئيسة للمهاجرين بالنظر إلى:
• حاجة الزراعات الحديثة لليد العاملة، فزراعات الشمندر والقطن والحوامض والزيتون تتطلب أعداد مهمة من العمال، والعمل فيها لا يتوقف طيلة السنة.
• إسهام الزراعات الحديثة في إحداث مناصب شغل مباشرة وغير مباشرة. تتمركز غير المباشرة أساسا في المراكز الحضرية حيث الوحدات الصناعية التي تعمل على تحويل وتثمين منتوجها.
عرف القطاع المسقي لتادلا تزايدا سريعا في عدد سكانه الحضريين وتضاعفت عدد مراكزه الحضرية، فقد برزت بوادر الظاهرة الحضرية بتادلا إبان فترة الحماية، تطورت بشكل كبير بعد الاستقلال لتصبح أهم تحول شهده المجال والمجتمع بسهل تادلا، فمن جهة انتقل عدد مدن المنطقة من ثلاثة مدن سنة 1936 هي قصبة تادلا، بني ملال والقصيبة، إلى أربعة مدن بعد استحداث مركز السبت أولاد النمة سنة 1971، ثم إلى إحدى عشر مركزا عندما عمل مخطط سنة 1982 على ترقية عدد من التجمعات القروية بالسهل كأولاد عياد، ودار ولد زيدوح، وأفورار، وأولاد مبارك، وسيدي جابر، وحد البراديا إلى مستوى مراكز حضرية، ثم إلى 12 مدينة حاليا. ومن جهة أخرى ظل السكان الحضريون يتزايدون بوتيرة سريعة، فقد تضاعف عددهم بحوالي 7,6 مرة خلال الفترة الممتدة ما بين 1960 و2004 متجاوزا المعدل الوطني الذي بلغ 4,8 مرة. كما انتقلت نسبة التمدين بالسهل من حوالي 23% سنة 1960 إلى 48,9% حسب إحصاء 1994 وإلى أكثر من 50% حاليا.
لقد أسهم توافد المهاجرين على مراكز سهل تادلا في ارتفاع عدد السكان الحضريين وظهور مراكز حضرية جديدة، حسب معطيات المندوبية السامية للتخطيط أسهمت الهجرة خلال الفترة ما بين 1960 و1994 بما يزيد عن 50% من مجموع الزيادة الإجمالية لساكنة المراكز الحضرية للسهل. إسهام اختلف من مركز لآخر تبعا لقوة استقطاب كل واحد منهم، فقد فاق 57% سنة 1971 بكل من مدينتي بني ملال والفقيه بن صالح وتجاوز بهما 60% سنة 1982 وبلغ خلال السنة نفسها حوالي 78% بمركز السبت أولاد النمة، وقد انخفضت الحصة نسبيا ما بين 1982 و1994 إلى حوالي 57% بالفقيه بن صالح وإلى 73% بالسبت أولاد النمة. وتتميز ظاهرة الهجرة التي حملت إلى سوق السبت 65% من حجم ساكنته بكونها حديثة، حيث أن تسعة مهاجرين من عشرة قدموا إليها مباشرة مع انتشار السقي بقطاع بني موسى.
تراجع الفلاحة السقوية وانفجار الهجرة نحو الخارج
تطور واقع الهجرة الدولية المغربية بشكل جلي منذ أواخر القرن العشرين. إنْ على مستوى الانطلاق؛ حيث اندمجت ضمن مسلسل الهجرة الدولية مناطق جديدة مثل الدار البيضاء، الشاوية، تادلا وغيرها، أو على مستوى اتجاهات المهاجرين؛ حيث ظهرت دول أصبح المغاربة يقصدونها، مثل إيطاليا وإسبانيا وأمريكا وكندا.
فإذا كانت المناطق الجبلية المجاورة لسهل تادلا قد عرفت هجرة عدد من سكانها نحو الخارج خلال عقدي الستينيات والسبعينيات فإن السهل لم يعرف نزوحا لأبنائه نحو الخارج إلا خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي وخاصة في الثمانينيات والتسعينيات والألفين.
مبيان توزيع مهاجري تادلا بدول أوربا الغربية
المصدر: ولاية بني ملال
هذا التميز الذي عرفه سهل تادلا لم ينحصر فقط في تيارات الهجرة الدولية التي انطلقت منه، بل أيضا في اتجاهها وطرقها، فحوالي 90% من مهاجري سهل تادلا اتجهوا صوب إيطاليا وإسبانيا وحوالي 8% منهم فقط اتجهوا صوب فرنسا، مع تسجيل أن عددا كبيرا من هؤلاء المهاجرين هاجروا بشكل غير قانوني، فرغم صرامة قوانين الهجرة الأوربية وتشديد الرقابة على حدودها لم يمنع ذلك المهاجرين من التفكير في طرق جديدة للهجرة، حيث استمرت الهجرة كظاهرة مجتمعية.
لقد تميز سهل تادلا بكونه من أهم الأحواض الهجرية الجديدة بالمغرب، وبسيادة الهجرة السرية غير القانونية به. فالهجرة الدولية المنطلقة من الفقيه بن صالح مثلا هي هجرة سرية في معظمها عند انطلاقتها الأولى، تميزت بكونها هجرة ذكورية، شبابية، همت العزاب أساسا، اشتغلوا بالمهجر في قطاعات اقتصادية متعددة، كالبناء والفلاحة والتجارة. واتجهت نحو إيطاليا وإسبانيا.
سهل فلاحي غني يطرد سكانه
يدل التحليل النفسي الاجتماعي لهجرة التادليين للخارج، بشكل ملفت وبأفواج كثيرة حدا، على وجود بعض العوامل في البيئة الطاردة تُحْدِث في نفس المهاجر شعورا داخليا ينفره من بيئته الأصلية، ويدفعه للبحث عن بيئة جديدة يتوقع أن تكون ظروف الحياة فيها أفضل، كما أشار إليه الباحث مجدة إمام في بحثه عن هجرة الشباب الدولية، ولعل العامل الاقتصادي يعد أهمها على الإطلاق. فعلى الرغم من أنه لا توجد بالضرورة علاقة بين معدلات البطالة والهجرة، فليس كل العاطلين يتجهون إلى الهجرة وليس كل العاملين يعزفون عنها، إلا أن ارتفاع معدلات اليد العاملة هو أحد مصادر الهجرة المحتملة.
تأثرت الأوضاع الاقتصادية للمغرب بالتغير الذي طرأ على دور الدولة مع تبنيها لسياسة التقويم الهيكلي الذي فرضه البنك الدولي، وهو ما يعني خوصصة بعض مؤسسات الدولة، فقد أحدثت تلك السياسات نتائج لم يكن جميعها إيجابيا، حيث أدت تلك السياسات إلى تراجع الدولة عن التدخل لتحديد أسعار مخرجات ومدخلات الإنتاج الفلاحي، وتراجعها عن دعم أسعار وسائل الإنتاج من أسمدة ومياه السقي وغيرها، والحد من القيود المفروضة على القطاع الخاص في استيراد وتصدير المنتجات الفلاحية وغيرها.
هذا الأمر أفرز زيادة في معدلات الفقر والبطالة بين العاملين في المجال الفلاحي وعزز الحافز لديهم، خاصة في صفوف الشباب، للهجرة بحثا عن عمل بديل. كما أدت سياسة الخوصصة إلى تخفيض عدد اليد العاملة في المنشآت الفلاحية، وإلى تأثر الخدمات وبرامج التغطية الاجتماعية، وإلى زيادة معدلات الفقر. خصوصا في ظل غياب صناعة غذائية قادرة على معالجة وتحويل الفائض من الإنتاج الفلاحي وبالتالي توفير فرص عمل للشباب الذي يصل سنويا إلى سوق الشغل.
الأسرة الفلاحية بتادلا وقود الهجرة الدولية
لقد فرض العاملان الاقتصادي والنفسي نفسيهما كأحد أهم دوافع الهجرة نحو الخارج بسهل تادلا. فالمجتمع المغربي كبقية المجتمعات النامية جعل الجانب المادي معيارا للنجاح والتفوق، وصارت فيه الكماليات ضروريات لدى شبابه. ولما كانت الهجرة تمكن الفرد المهاجر من تحقيق بعض المكاسب المادية؛ سيارة فارهة، منزل فخم، أموال طائلة … فإن مكانته داخل المجتمع سوف تتحسن وسيكن له الجميع الاحترام والتقدير، كل هذا جعل العديد من الشباب يعيش حلم الهجرة الذي حول جميع المهن والوظائف والحرف غير ذات قيمة أمام عمل بسيط وسط ميلانو أو برشلونة. إن هذه النظرة المجتمعية للمهاجر جعلت الشبان يعيشون حلم الهجرة حياتهم كلها. فالهجرة الدولية المنطلقة من مدينتي الفقيه بن صالح وأولاد النمة وغيرهما بسهل تادلا ضمت في صفوفها أبناء الأسر المالكة للأراضي وغير المالكة لها، وشملت الموظفين والمهنيين والعاطلين على حد سواء، وعليه يتضح أن أسباب هذه الهجرة متداخلة بين ما هو اقتصادي وما هو اجتماعي ونفسي، وهو ما قد يجعل تأثيرها يختلف من مجال لمجال بل ومن مهاجر لآخر كل حسب دافعه الأول من تلك الهجرة.
لقد اتضح لنا أثناء قيامنا بمقابلات مع مجموعة من المهاجرين وأسرهم بسهل تادلا أن للأسرة تأثيرا هاما في الدفع بالشباب نحو عبور المتوسط، خصوصا من قبل الأسر الفلاحية الميسورة التي شجعت على الأقل أحد أبنائها للهجرة عبر تكفلها بجميع المصاريف الضرورية، لما رأت في ذلك من استثمار سيعود عليها بالنفع الاقتصادي، ولإيمانها أنها إن لم تفعل ذلك فقد تخسر أراضيها وفلاحتها بفعل توالي سنوات الجفاف ورفع الدولة لدعمها عنها، وستخسر مكانتها بفعل ازدياد ثراء الأسر الفقيرة التي عاد أبناؤها المهاجرون بأموال واستثمارات كبيرة نقلتها من الهامش الاجتماعي إلى محط تقدير واحترام.
فالهجرة لديها هي صمام أمانٍ من المخاطر الاقتصادية التي لا تملك تأمينا عليها، وهي تطوير لمشاريعها العائلية وتنويع لها، فقد تمكنت عدة أسر للمهاجرين من تطوير نشاطها الفلاحي ووسعت استثماراتها الفلاحية، وكرست بالتالي مكانتها وحظوتها في المجتمع.
العودة «للاستثمار» في المغرب
انطلاقا من استطلاع أجريناه بسهل تادلا، التقينا فيه مع المهاجرين العائدين ومع أسرهم، وجدنا أن الرغبة في إدارة وتطوير مشاريع العائلة كانت الدافع الرئيس الذي جعل بعض المهاجرين يفضلون العودة إلى مواطنهم الأصلية بتادلا، هذا الأمر دفع بحوالي 14% من المهاجرين إلى الاستثمار بمدينة أولاد النمة الفلاحية، خصوصا في صفوف من لهم أراضي فلاحية مسقية تسعى العائلة لتطويرها.
لقد وجدنا أن التدخل الذي قام به المهاجرون سواء لتمويل أو لتطوير المشاريع العائلية الفلاحية بمناطقهم الأصلية انحصر أساسا في:
– اقتناء الآلات الفلاحية الحديثة: الجرارات، وسائل النقل، آلات الحصاد، …
– تجهيز الأراضي بتقنيات السقي: المضخات، وسائل السقي الحديث، …
– توسيع المساحات المزروعة: مد القنوات، استصلاح الأراضي، زراعة الأشجار المثمرة، استعمال البذور المنتقاة،…
– استعمال المبيدات الفلاحية والأسمدة،
– اقتناء أراضي فلاحية جديدة وتوسيع الملكيات،
– الاهتمام بتربية الأبقار الحلوب من خلال اقتناء أبقار من الصنف الأصيل والهجين.
هذا الاهتمام بمشاريع العائلة كان ضمن اهتمامات المهاجرين الأوائل فقط، كما سجلنا تأثره بتوالي سنوات الجفاف ما جعل الأسر تميل للتخلي التدريجي عن مزاولة الأنشطة الفلاحية وتعويضها بأخرى أسرع مردودية.
تكامل ذكي بسهل تادلا بين الهجرة والفلاحة
لقد أرسلت مجموعة من الأسر الفلاحية بتادلا أبناءها نحو الخارج إما للرفع من دخلها وتحسين وضعها الاجتماعي أو لتحصين مشاريعها العائلية عن طريق تنويع المداخيل، وبالفعل فقد أسهمت عائدات الهجرة في توفير دخل شبه قار لعدد من أسر المنطقة، وهو ما انعكس على حياتها اليومية.
لقد اقترحت مجموعة من الأسر على أبنائها الاستثمار بالمغرب (20% من المهاجرين المستثمرين بمدينتي أولاد النمة)، وهناك من عرض عليهم نوع المشروع للاستثمار فيه، (12% من المهاجرين المستثمرين بأولاد النمة).
أصبحت بعض العائلات شريكا في مشاريع أبنائها المهاجرين، فحوالي 70% من الاستثمارات التي أنجزت بمدينة أولاد النمة تعود للمهاجر وعائلته، كما أن حوالي 10% من الاستثمارات المنجزة يسيرها بعض أفراد عائلة المهاجر.
إن للعائلة الفلاحية دور أساس في المسار الهجري لعدد مهم من المهاجرين الدوليين؛ من التفكير والتحضير للهجرة، إلى الاستقرار والعمل بالمهجر، وصولا للعودة والاستثمار بالموطن الأصلي. عدد مهم من العائلات خصوصا بمنطقة أولاد النمة مولت هجرة أبنائها للخارج، وواكبت مسارهم بالمهجر، ثم وجهت وأطرت استثمار عائداتهم من الهجرة بالموطن الأصلي، حفاظا منها على مشاريع العائلة وتطورها وضمانا لمداخيل أخرى متنوعة.
لقد انقسمت المشاريع العائلية للمهاجرين المستثمرين إلى قسمين:
– مشاريع تستهدف تطوير المشروع العائلي الفلاحي (14% من مشاريع المهاجرين بأولاد النمة)، حيث يعمل المهاجر على تجهيز الاستغلالية العائلية عبر حفر الآبار وتجهيزها بالمضخات، وأيضا باقتناء الأراضي وتوسيع الاستغلالية واقتناء الأبقار الحلوب.
– مشاريع جديدة، إلى جانب تطوير الأصلية، أسهمت العائلة في إنجازها بهدف خلق فرص عمل لأحد أبنائها، كما هو الحال بالنسبة لحوالي 12% من المهاجرين المستثمرين بمدينة أولاد النمة.
لقد كانت الأسر الريفية أكثر ذكاء في تعاملها مع الهجرة الدولية بجعلها مدعما لنشاطها الفلاحي ومكملا له، وحصنا لها من انعكاسات التقلبات المناخية والاقتصادية، فاستطاعت أن تحقق لنفسها، بعدة أحواض هجرية، فائضا هاما من المداخيل.
هذا الأمر نجده يتكرر بفعل توالي سنوات الجفاف والتقلبات المناخية العنيفة في السنوات الأخيرة، وصرنا أمام ظهور أفواج جديدة من المهاجرين التادليين الباحثين عن موارد جديدة، وقد يكون من بينهم أولئك العائدين المستثمرين بالسهل، الذين أرغمتهم الظروف الطبيعية والاقتصادية على تكرار تجربة أواخر الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي.