في زمن يتطلع فيه الجميع إلى بناء مستقبل أفضل، يأتي البعض ليبرر سلوكيات غير أخلاقية تحت شعار “التضامن”، وعبارة “تضامنا معهم وما خلاوناش نغشو” هي أكثر صيحة استفزازية تعكس فهماً مغلوطاً للتضامن، وتطرح تساؤلات جدية حول قيمنا التعليمية والأخلاقية، وشرعنة الغش تحت غطاء التضامن هو بمثابة تقنين للفساد، وتحويل الفعل المشين إلى واجب، وهو أمر لا يمكن القبول به في مجتمع يسعى إلى النهوض والتحضر، لذلك أتساءل؛ كيف لنا أن نتوقع أن يكون هؤلاء التلاميذ رجالاً ونساء المستقبل وهم يتبنون الغش كوسيلة مشروعة لتحقيق أهدافهم؟ وكيف لإعلام يجري وراء تلاميذ طائشين أن يحارب الظاهرة؟ وهل فعلا تقول الأسرة بدورها المحوري؟
الأسرة: المرآة التي تعكس القيم
في سياق الحديث عن التحديات التي تواجه المنظومة التعليمية في مجتمعاتنا، تبرز الأسرة كأحد أهم الأعمدة التي تعتمد عليها هذه المنظومة لتحقيق أهدافها التربوية والتعليمية، فالمسؤولية لا تقع على عاتق المؤسسة التعليمية وحدها، بل تمتد إلى الأسرة التي تُعتبر المدرسة الأولى للتربية، وحجر الأساس الذي يُبنى عليه مستقبل الأجيال، لأن الأسرة هي المكان الذي يتعلم فيه الطفل أولى دروس الحياة، وهي التي تُشكل منظومته القيمية والأخلاقية.
وعندما تربي الأسرة أطفالها على احترام القيم والأخلاق، فإنها تضع حجر الأساس لمجتمع نزيه وعادل، والأطفال الذين ينشأون في بيئة تحترم الصدق والنزاهة، ويتعلمون فيها أن العمل الجاد هو الطريق الصحيح لتحقيق الأهداف، يكبرون ليصبحوا أفرادا مسؤولين ونزيهين في المجتمع.
للأسف، نجد في مجتمعنا بعض الأسر التي تتهرب من مسؤوليتها التربوية، وتلقي باللوم على المؤسسة التعليمية عندما يتعلق الأمر بسلوكيات أبنائها. هؤلاء الآباء والأمهات يتناسون دورهم الجوهري في تشكيل سلوك أبنائهم. كيف يمكن للأسرة أن تتوقع من أبنائها أن يكونوا نزيهين وهم يرون آباءهم وأمهاتهم يتغاضون عن الغش أو حتى يشجعون عليه؟ هذه الازدواجية في المعايير ترسل رسالة خاطئة إلى الأبناء، مفادها أن الغش والكذب يمكن تبريرهما في بعض الحالات.
إن دور الأسرة في تعزيز القيم الأخلاقية لا يمكن إغفاله أو تجاهله، لذلك يجب يدرك الآباء والأمهات أن تعليم الأطفال قيم النزاهة والصدق يبدأ من المنزل، وعلى الأسرة أن تكون قدوة حسنة لأبنائها، وأن تغرس فيهم قيم العمل الجاد والمثابرة. عندما يشب الطفل على هذه القيم، فإنه يواجه العالم بثقة وأمانة، ويصبح عضواً فاعلاً ومسؤولاً في المجتمع.
الإعلام: انحياز للأخبار المثيرة وتغاضٍ عن الجوهر
يلعب الإعلام دورا حاسما في تشكيل الرأي العام وتوجيه المجتمع نحو القيم والمبادئ التي يحتاجها لتحقيق التقدم والازدهار. ومع ذلك، نجد أن الإعلام في بعض الأحيان ينجر وراء “البوز” وملاحقة الأخبار المثيرة على حساب جوهر القيم والأخلاق التي ينبغي أن يكون منبراً لها.
الإعلام يمتلك القدرة على أن يكون منبرا لنشر القيم الإيجابية وتعزيز السلوكيات الحميدة في المجتمع، ومن خلال تسليط الضوء على النماذج الناجحة والمتميزة من التلاميذ والأساتذة، يمكن للإعلام أن يلهم الآخرين ويشجعهم على اتباع نفس النهج. لكن في المقابل، وللأسف، نجد أن العديد من وسائل الإعلام تفضل التركيز على الجوانب السلبية والأخبار المثيرة التي تضمن لها نسبة مشاهدة عالية وربحا سريعا.
عندما يختار الإعلام التركيز على السلوكيات السلبية والمشاكل، فإنه يسهم في تضخيم صورة قد لا تعكس الواقع بأكمله، نعم، هناك تلاميذ يتصرفون بطريقة غير مقبولة، ولكن هناك أيضا تلاميذ متخلقون ومتفوقون يعملون بجد ويحققون نجاحات ملحوظة، والتركيز الإعلامي المفرط على الجانب السلبي يعطي انطباعا خاطئا بأن هذه السلوكيات هي السائدة في المجتمع، مما يزيد من انتشارها بين التلاميذ الآخرين ويعزز لديهم الشعور بأن الغش والسلوكيات السيئة أمر مقبول أو شائع.
ولا ننسى أن التلاميذ، بطبيعتهم، يتأثرون بشكل كبير بما يرونه ويسمعونه في وسائل الإعلام، عندما يشاهدون تقارير وأخبار تركز على الغش والسلوكيات السلبية، فإنهم قد يعتقدون أن هذه هي القاعدة وليس الاستثناء، لذلك الإعلام يلعب دورًا في تشكيل سلوكيات التلاميذ، حيث يمكن أن يشجعهم على تقليد ما يرونه إذا كان محاطا بضجة إعلامية كبيرة.
الإعلام هو سلاح ذو حدين، يمكن أن يكون أداة لبناء المجتمع أو لهدمه، لذا على وسائل الإعلام أن تدرك تأثيرها الكبير على الرأي العام وسلوكيات الأفراد، وأن تتحلى بالمسؤولية في نقل الأخبار وتوجيه المجتمع نحو القيم الإيجابية، لأن التركيز على الجوانب السلبية فقط يسهم في تدمير الأجيال القادمة، بينما يمكن للإعلام البناء أن يلهم ويشجع على تبني القيم والأخلاق التي نبني بها مستقبلًا أفضل للجميع.
النداء إلى الضمير الحي: معركة القيم والأخلاق
رسالتي إلى التلاميذ، وقد كنت واحدا منهم، هي أن يتحلوا بالمسؤولية وأن يدركوا أن الغش ليس حلا بل هو طريق إلى الفشل، وأن التضامن الحقيقي هو الوقوف مع الحق والعمل بجد لتحقيق الأهداف بطرق مشروعة، كما أدعو الأسر إلى تحمل مسؤولياتها في تربية أبنائها على القيم النبيلة، والاعتراف بدور الأساتذة الذين يعملون بجد في سبيل مستقبل أفضل لأبنائنا، لأن محاربة الغش ليست مسؤولية الأساتذة وحدهم، بل هي معركة يجب أن يخوضها المجتمع بأكمله.
الغش خيانة للمستقبل
إذا أردنا حقاً بناء جيل قادر على قيادة المستقبل، يجب علينا جميعا – تلاميذ وأسر ومؤسسات وإعلام – أن نتحلى بالمسؤولية والأخلاق، وأن نحارب كل ما من شأنه أن يفسد هذا المسار، والغش هو خيانة للمستقبل الذي نطمح إليه، لذا يجب أن نغرس في نفوس أبنائنا أن النزاهة والصدق هما الطريق الوحيد لتحقيق النجاح الحقيقي والمستدام.